الفلاسفة الرومان أشاروا إلى الحكمة بالفضائل والمهارة والعفة وكان مثال البومة Wol الشعار الشعبي للحكمة لقدرتها على الإبصار في الظلام. وهذا يرتبط بأهمية الحكمة وقت الظلام المعرفي، أي عندما نتعامل مع ما هو غير معروفٍ وغير مرئي ما هو غامض، فطائر البوم هو سيد المناورات في العالم المجهول؟
من الشخص الحكيم من وجهة نظرك؟
يشيع في المعتقدات المجتمعية أن الحكمة هي سمة من سمات الشيخوخة لأن الحكمة هي حالة من النضج المثالي والخبرات المتراكمة و افترض إريكسون في نظريته حول النمو الإنساني النفسي الاجتماعي بأن الحكمة تتشكل في مراحل متقدمة في تطورالشخصية (إريكسون، 1959). لأن الحكمة قد اعتبرت نقطة نهاية مثالية للنمو الإنساني. بينما في توجهات نظرية أخرى تعتبر الحكمة نوع من الأداء الكف والمعرفة الخبيرة - مثل نموذج برلين للحكمة - تشير إلى أن العمر وحده لا يكفي ليحصل الفرد على الحكمة، وأن العلاقة بين العمر والحكمة ليست حتمية وأن هناك متغيرات أخرى توثر في الحكمة كسمات الشخصية والأداث الحرجة والخبرات التي يتعرض لها الشخص.
من يدعي الحكمة؟
الحكمة ترتبط بالتعبير عن المعرفة أو إصدار الأحكام والتقييمات أو أداء ذو خبرة في موقف معقد، أي أنه من الصعب أن يتم ادعاءها، ومع ذلك سنجد ما يشبه هذا الادعاء كما سيتضح فيما يلي:
يبدو أن هناك علاقة عكسية بين التفكير في الذات على أنها حكيمة (اعتبار الشخص نفسه حكيما) وكونه حكيما في الواقع. فقد أجرى Siegal Ronald استطلاعًا يطلب من المعالجين النفسيين ذوي الخبرة وصف معالج حكيم، كانت إحدى السمات الأكثر شيوعًا لدى المعالجين الحكماء من وجهة نظرهم هي الوعي بحدود فهم الفرد (محدودية فهمه وإدراكه).
هذه البصيرة تشير إلى أن أي شخص يعتقد أنه حكيم هو على الأرجح ليس كذلك، لأن ذو العلم والمعرفة الحكيمة يدرك أن العلم واسع وما حصله من علم سيكون قليلا مقارنة ونسبة لما هو موجود وذلك لأنه اطلع وطالع على بعض المتاح، بينما من لم يطلع ولم ينفتح على تجارب وخبرات متنوعة سيظل أسيرا لتجربته وخبراته ومتمركزا حولها ويظن أنها البداية والنهاية، وسيكون حاسما (أكيد – يجب – يلزم -طبعا – خلاصة الأمر ونهايته- ليس هناك كلام بعد كلامي...) غير متردد في آرائه ومعمما في القول (كل المواقف والاحتمالات نتيجتها واحدة – كلهم على هذا الشكل -...) غير مستخدما (بعض – ربما – من الممكن) فتظهر لديه أحادية الرؤية وهذا يتعارض مع أساسيات تكوين الشخص الحكيم الذي كي يكون حكيما قد انفتح على خبرات كثيرة وأدرك متلازمة التنوع حتى وإن استقر على وجهة وطريقة لكنه على علم ووعي بما هو موجود حوله في الحياة.
وبشكل عام، الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أكفاء عادة ما يكونون أقل كفاءة من أولئك الذين يعتقدون أنهم ليسوا أكفاء، وفق ما يسمى بتأثير دانينغ-كروجر Dunning-Kruger وهو انحياز معرفي يشير إلى ميل الأشخاص غير المؤهلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم.
ويرتبط هذا الانحياز نحو الذات بمفهوم صار شائعا في دراسات علم النفس الإيجابي وهو مفهوم الأوهام الإيجابية positive illusions. الذي قدمته تايلور وبراون (1988).
وفي إطار الحديث عن إدعاء الحكمة، يمكن أن نجد الحكمة تحدث من تراكم الخبرات والمواقف والتفاعلات، وجزء من هذه الخبرة المرتبطة بالحكمة تحدث من التأمل بعد المواقف وتدبرها والاستفادة منها، لكن ربما نجد من يدعي الحكمة بأثر رجعي، بأنه كان يعلم ماذا سيحدث أو يقدم تقييما للأحداث بعد حدوثها وظهور نتائجها ويصدر أحكاما صائبة على ما حدث لكن بعد ظهور النتائج.
ولذلك هناك فارق مهم بين استعادة الماضي وهو مجرد النظر إلى الماضي. وبين الإدراك المتأخر وهو منظور حول الماضي تم فيه اكتساب الفهم وهو ما لم يكن متاحًا للشخص في وقتها. وبين الحكمة متمثلة في القدرة على التقييم وإصدار الحكم في وقت الحدث وسياقه. أما الحكمة بأثر رجعي تتضمن تقييمًا جديدًا للوقت الفائت أو الحدث الماضي.
ربما لم تكن تدرك الأمر بتفاصيله كما تدركه الآن؟ لذلك يمكنك التأمل في الماضي والتدبر فيه، ويمكنك أن تدرك شيئا لم تكن تدركه بوضوح حينها؟ لكن هل تقيم إدراكك الحالي مقارنة بإدراك السابق أم تدعي حكمتك الآن بأنها كانت سابقة؟ أم من الممكن أن نتأمل الحدث بدلا من أن ندعي الحكمة بعد وقع الحدث؟
الحكمة بأثر رجعي أو تحيز الإدراك المتأخر نتائجه 100% صحيحة ويسمى بتأثير "يعرف كل شيء طوال الوقت" knew-it-all-along” effect أو الحكمة بعد فوات الأوان حيث يدعي الشخص أنه قال قبل ذلك أن هذا سيحدث أو كان يعرف ما سيحدث قبل أن يحدث أو أن ما حدث كان لابد أن يحدث أو أنه تنبأ حرفيا بذلك.
وهذا الأمر ليس سهلا وبسيطا لنتجاوه، لأنه يدخل في عدة مجالات وربما نواحي قانونية وجنائية وأموراو تتعلق باتخاذ القرار والسياسات وقرارات الحروب والمعارك والتشخيصات الطبية والمنافسة الرياضية ويبدأ تحيز الإدراك المتأخر باعتبار أن القرار السابق أو التقييم للماضي خاطئ.
تأمل معي المشهد:
مشهد 1:
مريضة تقاضي طبيبا لخطأ في ممارسته العيادية بعد أن فشل في الكشف عن ورم في الأشعة السابقة (التي تبدو جيدة للعين دون مساعدة). في المحكمة ، يقدم طبيب ثان شهادته على أساس الأشعة الأحدث (التي تكشف عن نمو واضح للورم). ويدفع الطبيب الثاني بأن الطبيب الأول كان يجب أن يكون قادرًا على رؤية الورم في الأشعة السينية السابقة.
مشهد 2:
يقوم المدير بتعيين موظف جديد على أساس شهاداته وسيرته الذاتية . بعد عدة أشهر من الأداء الباهت للموظفة ، بدأ المدير يندم على قراره. بعد عام ، يتم إنهاء الموظف. تقوم الإدارة العليا بالتحقيق في قرار المدير والكشف عن عدة قرارات و"علامات التحذير" التي كان يجب على المدير ملاحظتها قبل التوظيف. يتلقى المدير تقييمًا سنويًا ضعيفًا على أساس قرار التوظيف الفردي هذا.
ما المشترك بين هاتين الحالتين؟ كلاهما ينطوي عملية تقييم وإصدار حكم وهو مكون أساسي من مكونات الحكمة، وكلاهما يتضمن تقييم التقييم السابق، وكذلك على اللوم، حيث يتم اعتبار شخص واحد مسؤولاً عن السماح بحدوث وضع غير مرغوب فيه. كلتا الحالتين أيضا ينطوي على التخمين الثاني، أي استخدام الحقائق المتاحة حاليًا لإصدار حكم على شخص كان لديه وصول فقط إلى قدر محدودة من المعلومات في وقت اتخاذ القرار الرئيس. باختصار، كلتا الحالتين تنطوي على تحيز في الإدراك المتأخر.
ووفقا للفهم السابق يُعرَّف تحيز الإدراك المتأخر على أنه الاعتقاد بأن الحدث يمكن التنبؤ به بشكل أكبر بعد أن يصبح معروفًا عما كان عليه قبل أن يصبح معروفًا. (Arkes, et al., 1988)
مستوىات تحيز الإدراك المتأخر:
يحدث تحيز الإدراك المتأخر عندما يشعر الناس أنهم "عرفوا ذلك طوال الوقت"، أي عندما يعتقدون أن حدثًا يمكن التنبؤ به بعد أن يصبح معروفًا أكثر مما كان عليه قبل أن يصبح معروفًا. وهذا التحيز الذي يمكن بسهولة أن نقع فيه يتضمن ثلاث مستويات ودرجات مختلفة:
("قلت إن ذلك سيحدث") لكن السؤال هل تتذكر ما قلته حرفيا بالفعل؟
يرتكز مستوى تشويه الذاكرة على سوء فهم حكم سابق واحد . بينما إن تم تسجيل ما قاله صوتا وصورة ربما يجعل الشخص منتبها أكثر من الوقوع في هذا الأمازق ومع ذلك ربما نجد من الإعلاميين من يقعون في هذا الفخ مرارا وتكرارا بقصد أو بلا مبالاة في مدح فلان فإن صار في غير الواجهة لا مانع من ذمه والإساءة إليه وانهم سبق أن حذروا منه، وبما يتناقض تماما مع ما حدث. أو الإساءة لدولة ما فإن تم التقارب السياسي معها رددوا أن سبق وأن قلنا أنها مرحلة مؤقنة.
يحدث هذا مثلا في الانتخابات فقبل الحدث قد يصنف المشاركون احتمالية فوز فلان في الانتخابات. بعد ذلك، بعد الانتخابات، سيحاول المستجيبون تذكر تقديراتهم السابقة للاحتمالية، حيث يمثل الانحراف بين الاستجابة الحالية والسابقة درجة تشوه الذاكرة.
فربما يقولون إن نسبة نجاحه ستكون 60% فإذا نجح ربما قالوا أننا سبق أن قلنا أنه سينجح بنسبة 80% . فبعد الفوز الكبير قد ينظر الناخب نفسه إلى الوراء ، ويرى الفوز على أنه أكثر توقعًا مما كان عليه قبل معرفة النتيجة، ويستنتج أن فرص مرشحه كانت على الأقل80٪ أي أن التحيز في الإدراك المتأخر يتضمن عدم القدرة على استعادة الشعور بعدم اليقين الذي سبق الحدث. عندما تكون هناك حاجة لفهم الأحداث الماضية كما تم تجربتها في الموقع ، فإن تحيز الإدراك المتأخر يحبط التقييم السليم.
إن أخطاء التذكر هي الخطوة الأولى نحو التحيز في الإدراك المتأخر، ولكن تحديث المعرفة وظهور النتائج هو الذي يساهم بشكل أكبر في هذا التحيز وإن لم تظهر النتائج فما كان له أن يدعي أنه سبق وأن قال ذلك. حيث يحاول الناس استرداد توقعاتهم السابقة للحدث ، وقد يفشل الأشخاص في استعادة الإجابة التي قدموها عن سؤال سابق وبدلاً من ذلك يعتمدون على ما يعرفونه الآن أنه الإجابة الصحيحة. وستكون أكثر انسجاما مع النتائج الواضحة الآن.
("كان يجب أن يحدث")، لكن هل حينها كان لديك اليقين بأن هذا يجب أن يحدث؟ وأن ليس هناك احتمالات لنتائج أخرى ولو بنسب أقل؟ هل هذا راجع إلى أسباب وظروف محددة؟.
يتضمن مستوى الحتمية المعتقدات حول الاحتمالات الموضوعية للأحداث والموقف موضع التقييم، ويتضمن المعتقدات حول القوى السببية التي تجعل بعض النتائج تبدو أكثر قابلية للتنبؤ، كأن يقول "في ظل ظروف معينة، لم تكن هناك نتيجة مختلفة ممكنة" فعندما لا يجد تفسيرا ومعنى لما حدث ولا يحلل الظروف بأبعادها يكون من السهل عليه أن يحدد نتيجة واحدة في مقابل الظروف التي يرصدها. لذلك الإستراتيجية المعاكسة لهذا التحيز تتضمن زيادة وعي الشخص بالتفسيرات المحتملة الأخرى وروابط السبب والنتيجة.
يتضح ذلك عندما يقول القائل "كان لازم يعمل كده، لأن دي آخرة الدلع في تربيته" فهو يحدد سبب واحد للماضي مع لإهمال التفسيرات المعقولة الأخرى للحدث والثقة المفرطة العامة في اليقين من أحكام الفرد. ولكن التشجيع على التفكير في التفسيرات السببية البديلة نتيجة معينة يمكن أن يقلل من تحيز الإدراك المتأخر.
("كنت أعلم أنه سيحدث"). هل أخبرت وقتها بهذا التنبؤ؟ أم كان يراودك احتمالية وشك؟
مستوى القدرة على التنبؤ ذاتي بطبيعته، ويركز على المعتقدات المتعلقة بمعرفة الفرد وقدرته (على سبيل المثال ، "كنت أعلم أنه سيحدث"). يتراكم مستوى القدرة على التنبؤ فوق الحتمية، مما يعني أنه يتضمن معتقدات حول الوضع الموضوعي للعالم ولكنه يتضمن بالإضافة إلى ذلك معتقدات حول براعة الفرد في التنبؤ وفهم العالم.
والمستويات الثلالثة منظمة بشكل هرمي ، حيث يتضمن المستوى الأدنى عمليات أساسية أكثر للذاكرة ، بينما يتضمن المستوى الأعلى المعتقدات الاستنتاجية الذاتية الواسعة. ((Roese, & Vohs, 2012)
التحيز والتعلم
يمكن الخلط بين التحيز في الإدراك المتأخر والتعلم البسيط من التجربة أو مراجعة مواقف الحياة وتأملها للاستفادة منها. بل يبدع الأفراد والمنظمات ويزدهرون عندما يحللون الأخطاء ويعدلون استراتيجياتهم وفقًا لذلك. بينما تحيز الإدراك لن يعرفوا أكثر بعد معرفة النتيجة أكثر مما قبل حدوثها". وبالتالي فالسؤال الأهم:
المعرفة التي ولدت من الإدراك المتأخر متى يكون لها فائدةو يجب تبنيها، ومتى يجب تجنبها؟ الجواب في توقيت التوصل إلى النتيجة وكيفيه التعامل معها:
المعرفة الناتجة عن الإدراك المتأخر مناسبة ومفيدة: عندما يتم توجيهها إلى الإجراءات الحالية والخطط المستقبلية، حيث التُعلم استراتيجية مستمرة.
المعرفة الناتجة عن الإدراك المتأخر غير مفيدة: عندما يتم توجيهها إلى اللحظات والأوقات الماضية، كما هو الحال في تقييم مهارة صانعي القرار الذين لم يكن لديهم كرة بلورية وبالتالي لا يمكن أن يعرفوا ما هو معروف الآن.
كيف نتحقق من وجود هذا التحيز؟
هناك استراتيجيتان تجريبيتان رئيسيتان توثقان تحيز الإدراك المتأخر:
تصميم الذاكرة :
يعطي كل مشارك حكمين، أحدهما قبل النتيجة المنتظرة والآخر بعده.
(على سبيل المثال، قبل مباراة كرة القدم، قد يقدر أحد المشجعين احتمالية فوز الفريق المضيف. بعد تحديد النتيجة الواقعية (فاز الفريق المضيف في الواقع) ، يقدر المشجع احتمالية الفوز كما كانت قبل بدء المباراة (والتي قد تتضمن محاولة استرداد التقدير السابق من الذاكرة). يُعرّف تحيز الإدراك المتأخر على أنه الفرق بين تقديرات الاحتمالية للنتيجة قبل الحدث وبين الإدراك المتأخر بعد الحدث.
التصميم الافتراضي لمجموعات مستقلة:
مجموعات تتلقى معلومات عن النتائج وأخرى أو لا تتلقى النتائج، فمثلا ستشاهد المجموعتان المباراة، لكن مجموعة واحدة فقط ستشاهد النهاية وتعلم أن الفريق المضيف قد فاز (حالة النتيجة مقابل حالة عدم النتيجة). ثم يقوم المشاركون في حالة عدم معرفتهم النتيجة بتقدير احتمالية فوز الفريق المضيف، في حين يُطلب من المشاركين في حالة النتيجة تجاهل معرفتهم بكيفية ظهور اللعبة ثم إصدار حكم والنتيجة رغم معرفتهم بها كأنهم يتخيلون أنفسهم في مكان ما من المشاركين بمجموعة وحالة عدم معرفتهم النتيجة ويُعرَّف تحيز الإدراك المتأخر على أنه الفرق بين تقديرات احتمالية هاتين المجموعتين.
لاحظ أن (يأتي الجانب الافتراضي للتصميم من مطالبة المشاركين بإصدار أحكام كما لو أنهم لا يعرفون الإجابة.) يكشف هذا عن مدى صعوبة ترك الأفراد النتيجة التي يعرفونها بالفعل وتقدير نتيجة أخرى.
المراجع:
There are many variations of passages
تناول المقال السابق التغيرات الإيجابية المحتملة في حال مرور بعض الأفراد لخبرة صادمة، لكن تفسير...
أقرأ المزيداستكمالا لما بدأناه من توضيح الاحتمالات الممكنة للفرد الذي مر بخبرة صادمة سواء كان الاحتمال هو...
أقرأ المزيديمكن للأحداث الصادمة أن تحطم العالم الافتراضي للشخص، ويصاحب ذلك كرب انفعالي شديد، مما يجعله مضطرا...
أقرأ المزيدأ.د. محمد السعيد أبو حلاوة . أستاذ الصحة النفسية المساعد - كلية التربية- جامعة دمنهور . * وهم...
أقرأ المزيد